قبل فترة، وبينما كنت في سوق "سراة عبيدة" الأسبوعي، التقيت شيخ شمل قبائل آل حيان "آل السري"، الشيخ جابر مشبب آل كردم، لفت نظري الكحل في عيني الشيخ، فضولي الصحافي قادني لأن أسأل أبا سلطان عن سر ذلك الكحل الذي لا يفارق عينيه، فقال لي "هل تريد معرفة السبب؟"، أجبته بنعم، ليرد عليّ "لن أجيبك هنا، زرني في وادي "ذبح" وسأكشف لك السبب". وعند الصباح الباكر، انطلقتُ باتجاه مركز "الفرشة"، لأكتشف سر ومعنى الكحل عندما يكون في عيون الرجال.
الكُحل والطيب
الرجل استقبلنا، وجلسنا معه، ليدور الحديث، ويروي لنا الشيخ جابر بن كردم كيف أنه لم يزر طبيباً في حياته لوجع في عينيه إلا مرة واحدة، حين طُلب منه تجديد رخصة القيادة. موضحا أنه حتى عهد قريب، كان الرجال في منطقة عسير يتزينون بالكحل في عيونهم، وأن هذه العادة ورثها الأبناء عن الآباء والأجداد، دون أن يجدوا في الكحل حرجاً، حيث يتكحل يوميا بعد عودته من أداء صلاة الفجر جماعةً، ويحرص قبل خروجه للصلاة ذاتها أن يتطيب مع كل فجر صبح جديد.
قوة إبصار
"الكحل نوعان، أسود صاف، وآخر مائل إلى الزرقة، يباع لدى العطارين وفي الأسواق الشعبية"، يقول الشيخ جابر، موضحا أنه يستعمل وينصح بالأسود منه، والذي يجلبه على شكل مكعب صغير، يسحقه في "النجر" –أي الهاون- حتى يستحيل إلى رماد ويضيفه إلى المكحلة. وهذا الكحل الطبيعي يكون مصدره اليمن وبعض دول أفريقيا. كاشفا عن معرفته بأناس يستخدمون الكحل عند النوم ، لكنهم يمسحونه عند الخروج من البيت، معتبرا أن استخدامه للكحل "ليس من باب الزينة"، ولكنه وجده وبحكم الخبرة مقويا جيدا للبصر، إذ نجح العام الماضي في اختبار البصر، ولم يشكُ من ضعف في البصر بحكم تقدم السن، إذ يقرأ -والقول للشيخ جابر-، في مصحف صغير جزءاً من القرآن كل يوم.
قلم السديري
ويتذكر الشيخ جابر مشبب آل كردم أيام الصبا، فيقول "كان عمري 16 عاماً، حينما خرجت إلى مدينة أبها، للبحث عن عمل. دخلت على أمير المنطقة آنذاك، وكان السديري، عرفته بنفسي وأن والدي الشيخ مشبب هو من أرسلني، وطلبت منه أن يوظفني كاتباً عنده، فقال الأمير وهل تستطيع الكتابة؟ وحيث لم يكن لدي قلمٌ لأبرهن له، فقد تجاوزت المكتب واقتربت من الأمير وسحبت منه قلمه وهو يبتسم، وكتبت له كلاماً أعجب به، لكن سني حال دون الموافقة، وقال الأمير لي، قل للوالد أن يبعث أحداً من إخوانك أكبر منك، وكان ذلك، إذ تم توظيف الشقيق الأكبر في إمارة المنطقة، ونُقل إلى سراة عبيدة.
الطائرة العمودية
يوم الخميس، الواقع في 23 من شهر ربيع الأول لعام 1392هـ، كان يوم ضيف "غير عادي". إنه أمير المنطقة، الأمير خالد الفيصل، يزور الفرشة لأول مرة، حيث كانت "آل حيان"، وقبائل أخرى، تنتظر الأمير الذي "لم نكن نعلم أنه سيستقل طائرة عمودية. لم نرَ الطائرة تلك من قبل.
هدير قادم من الشمال، ومحاولة أولى للهبوط، ولكنها تعود. محاولة ثانية، لم يكتب لها النجاح، وفي الثالثة التي تفرق بينها وبين الأولى ساعتان، هبطت أول طائرة عمودية بالقرب من مكتب الأمير آنذاك. أطفئت المحركات، وخرج الأمير الشاب خالد الفيصل، مصافحا أبناء تهامة فرداً فرداً"، يقول الشيخ جابر، مستحضرا الحادثة، وكأنها ماثلة أمام عينيه المزدانتين بالكحل الأسود.
الأمير وخبز الدخن
ذاكرة الشيخ جابر، التي تسعفه باستمرار، يخرج من جعبتها الكثير من ذكريات زيارة "الفيصل"، قائلا لنا "كان الحال متواضعاً جداً، لم نكن نعرف ولائم اليوم. كان الغداء عبارة عن حليب، ولبن، ولحم الماعز محنوذاً، إضافة إلى خبز الدخن. لم نكن نتوقع أن يشاركنا الأمير تلك الوجبة، ولكنه شمر عن ساعديه، وأكل من خبز الدخن، واللحم الحنيذ، واستمع إلى مطالبنا، ووجه بسرعة فتح العقبة، ليتسنى لسيارات الدفع الرباعي تجاوزها، وانهمر الخير منذ تلك الزيارة التاريخية، وتعاقبت الزيارات بعدها"، مضيفا "لقد كان الأمير يحبنا، ونحبه".
معاناة المزلقان
في طريق عودتنا إلى "سراة عبيدة"، احتجزت مياه السيول مركبتنا، لمدة ثلاث ساعات، في مزلقان "شني"، فهنالك أكثر من 10 "مزلقانات" باتت تؤرق عابري الطريق، ويناشد الأهالي وزارة النقل، لتحويلها إلى جسور تسمح بحرية الحركة والتنقل، وتمنع عزل عشرات القرى، ومركز وادي "الحيا"، وأجزاء من منطقة "جازان"، المتاخمة لحدود منطقة "عسير". فمع أول زخة مطر، تبدأ المعاناة.